تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب

من 1830 إلى 1990 م

 

للدكتور عباس الجراري

 

منشورات النادي الجراري – مطبعة الأمنية – الرباط 1997

 

المقدمـة

 

بسم الله الرحمان الرحيم

 

في نطاق اهتمامي بالأدب العربي في المغرب تدريسا وتأليفا وتأطيرا،  وشعورا مني بحاجة القارئ عامة وطالب الأدب خاصة إلى دراسات تتسم بالشمولية، وتتوخى التعريف، مما لا تتيحه البحوث الجامعية على كثرتها – لارتباطها غالبا بتعمـيق الدرس في موضوعات جزئية -، يسعدني أن أقدم هذا الكتـاب أعرف فيه بالشعر العربي في المغرب من خلال التطور الذي مسه على امتداد الفترة الحديثة والمعاصرة.

 

ومن غير أن أثير الأبعاد الدلالية للمصطلحات، أبادر إلى القول بأني لم أقصد من ( التطور) إلا ملمح النمو الذي جعل الشعر يتحرك متنقلا من وضع إلى آخر، لاشك أنه في سياقه اكتسب بعض المظاهر الارتقائية التي بها أحرز كيانه، أو سلك الطريق إلى إحرازه؛  وهو ما لا إمكان لتحقيقه إلا داخل المنظومة الإبداعية التي قد يفترض فيها وجود المبدع الخارق السباق الذي يتجاوز عصره فيأتي بغير المعهود. ولكـن الشعـر- كجميع الآداب والفنون– لا يخرج في سيره عن حدود مسيرة الفكر البشري والحياة الإنسانية عامة، أي أنه قد يتعرض لما يمكن أن يتعرضا له من صعود وهبوط، أو ركود ويقظة، أو تطور وتجدد، أو صراع وتغيير، أو حتى موت وفناء.    

 

كما أني لم أقصد من ( الحديث) و ( المعاصر) غير مدلولهما التاريخي والزمني، وليس المعنى الذي يربطهما بمدى الإبداع؛ إذ الشعر إما أن يكون أو لا يكون، بغض النظر عن المرحلة التي ينتمي إليها، لأن الحداثة غير مقترنة بفترة معينة، ولأن المعاصرة لا تعني دائما التزام روح العصر والتأثر به، علما بأن المقاييس والعناصر في هذه وتلك غير واضحة ولا ثابتة.

 

وقد ارتأيت تحديد هذه الدراسة بفترة زمنية تمتد من تاريخ احتلال الجزائر عام 1830 م إلى تاريخ حرب الخليج سنة 1990 م، باعتبار ما كان لذلك الاحتلال من أثر كبير في المغرب، عد به كالصدمة التي حثت على الإفاقة والنهوض؛ وباعتبار ما نتج عن هذه الحرب من شعور عميق بدخول العرب والمسلمين جميعا في مسيرة جديدة ولدت وعيا وفكرا ومواقف غير ما كان متعارفا عليه في السابق.

 

لقد ارتبط الشعر المغربي على امتداد هذه الفترة بظروف وملابسات لا يمكن فهمه أو تذوقه أو التجاوب معه خارج معطياتها التي منحته سمات – هي على تنوعها وتعددها – نابعة من طبيعة تلك الظروف والملابسات، مما يفرض على الدارس الذي يسعى إلى معرفة ذلك الشعر والتعريف به أن ينظر إليه من زاويتها.

 

وبحكم طول الفترة وتداخل مراحلها ونوعية العوامل الفاعلة فيها، تميزت الممارسة الشعرية المغربية بإنجاز خصيب غزير أفرز – في الحقبة المعاصرة خاصة – كمّا لا يخلو من إبداع يكشف عن تفرد نابع من خصوصيات البيئة المغربية بكل مكوناتها الطبيعية والحضارية والثقافية. وهو تفرد ينم عن عملية تأسيسية متفتحة ما زالت لم تتضح كل آفاقها وأبعادها، وإن ظن أن أمرها مفروغ منه ومتجاوز.

 

وإن هذا الإنجاز ليبدو متأرجحا بين التشبث بالنمط التقليدي وبين محاولات التحرر منه؛ وهو في هذا وذاك لا ينفصل عن القصيدة العربية بكل ما تحمله إبداعات الشعراء المشارقة، ولا سيما في مجال المقومات الفنية. 

 

ومن ثم، فإنه إذا كان الشعر في المغرب قد حقق ذاته أو كاد، فما كان ليتسنى له ذلك إلا من خلال النسق العربي العام الذي احتك به على مدى حقب التاريخ، وكذا من خلال محاولات التطوير والتجديد التي عرفها هذا النسق. ففي بوتقته يتحرك ويعتمل وينصهر، متعرضا للمد تارة وللجزر أخرى، ولكنه في كلتا الحالتين يسير مطاوعا للتيار ومنقادا إليه، إذ منه يستمد وجوده وقوته وحتى مشروعيته.

 

وفي غمرة هذا المسار الشعري العربي لا ينفك الشعر في المغرب يتفاعل مع الواقع في مختلف مكوناته وتناقضاته، ويتفاعل كذلك مع الذات المبدعة المندمجة في هذا الواقع، مما يبلور التجربة الشعرية في المغرب، ويعطيها ملامح مميزة ترتكز اساسا على المضامين التي هي– أكثر من خصائص الإطار الفني– قادرة على تحديد الهوية وإبرازها.

 

وليس من شك في أن غير قليل من مظاهر التشابه تجمع بين أطراف الشعر العربي أينما كان، سواء أتعلق الأمر بالشكل أم بالمحتوى، ولكن مع عناصر الاشتراك يبقى مجال للخصوصيات، وتبقى كذلك رؤيا الشاعر وموقفه ومدى مسؤوليته.

 

من هنا كان النظر إلى الشعر في هذه الدراسة يقتضي رصد شتى جوانبه التطورية في محاولة لمقاربتها وملامستها، وإن من بعد استعراضي في بعض الأحيان، وبمنهج وصفي يتوخى التعريف بالتجربة المغربية في مضمار الإبداع، على ما فيها من مستويات قد تضطر إلى إعمال الذوق والنقد.

 

ونظرا لما يطغى على نصوص هذا الشعر من تشابه وتماثل – على وفرتها – فقد اقتصرت منها على ما كان دالا في جانب من جوانب التطور الذي تسعى هذه الدراسة إلى إبرازه، مع محاولتي توسيع نطاق تقديمها  لتكون معبرة عن مختلف مراحل الفترة وما عرفته من تحرك شعري بلورته أجيال متعاقبة من الشعراء، وإن تعرض غير قليل من إنتاج هذه الأجيال للإهمال والضياع، حتى ما كان منه مجموعا في دواوين مخطوطة في الغالب، أو منشورا في صحف ومجلات يصعب الوصول إليها؛ فكيف بغير المجموع أو المنشور مما هو مفرق ومشتت وحبيس خزائن أصحابه ؟

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل قراءة فإن النص الشعري يظل مغلفا ومغلقا، أي في حاجة دائمة إلى الكشف عنه، باعتباره نبعا ثرا لا سبيل إلى حصر مجالاته الرحبة وممكناته المتدفقة، أو هكذا ينبغي أن يكون. ومن شأن إبداع بهذا البعد أن يثير صعوبة التحكم في نصوصه، والقبض على ماهيتها، وتحديد محاورها، والإمساك بالعناصر الفاعلة فيها والموجهة.

 

ومن هذا المنظور الذي يراعي مدى الارتباط بالشروط الشعرية التي تنبثق من الداخل، وكذا بالظروف الخارجية المؤثرة، كان تعاملي مع النصوص وما تحمله من تجارب مختلفة ومتباينة، غير مقتصر على المشهور منها أو المتداول، أو الذي ذاع صيت أصحابه، أو الذي كان له موقع ما أو موقف معين؛ هدفي أن أعرف بالشعر الذي صدر عن المغاربة في الحدود التي رسمتها له، على ما في هذا الشعر من تراكم واضطراب، إذ من خلال النماذج – وأكبر قدر منها – يمكن أن يتم الدرس والتحليل، ثم التمييز بعد ذلك والحكم.

 

          وإني في ذلك لا أسعى إلى إظهار موقفي الشخصي، بقدر ما أسعى إلى أن آخذ بيد القارئ، حتى يتاح له تمثل لهذا الشعر، أرجو أن يكون متكاملا وصحيحا ولو إلى حد، وأن يكون مغريا له ودافعا بعد ذلك إلى مزيد من القراءة في صحائفه ودواوينه، وإلى الرغبة في الاطلاع على أدب المغاربة وفكرهم عامة.

 

                 وقد جعلت هذه الدراسة مقسمة على النحو الآتي :

                 مقدمة : هي هاته

 

                 مدخل : ويتكون من مبحثين :

                           1 – إطار عام

                           2 – مفاهيم واتجاهات

 

                 الباب الأول : الفرد والمجتمع

                           ويتضمن فصلين :

1 – في رحاب الوجدان

2 – الواقع الاجتماعي

 

                 الباب الثاني : الوطن والأمة

                           وينقسم إلى فصلين :

1 – التعبير الوطني

2 – البعد القومي

 

                 الباب الثالث : مقومات ومؤثرات

                           ويشتمل على فصلين :

          1 – مقومات فنية ( اللغة – الإيقاع – الصورة )

          2 – التناص ( مؤثرات )

 

                 خاتمة : تأمل واستنتاج

 

                 والله تعالى أسأل التوفيق والسداد

الرباط في 26 رمضان 1416 هـ

الموافق 16 فبراير 1996 م

                                                                 عباس الجراري